إلى "المنشغلين" بحالنا و"القلقين" على مستقبلنا نقول

"لو خرجت من جلدك ما عرفتك"

... مقولة ساقها الجاحظ في إحدى نوادره عن أهل الجمع والمنع من البخلاء، ولكنها سرعانما صارت بعد ذلك مثلا يضرب بين الناس عن كل محتال ماكر لئيم، يصرّ على تجاهل واقع لا يوافق هواه، وإنكار حقائق لا تخدم مصلحته، مهما كانت الأدلة على هذا الواقع بينة لا تقبل الشكّ، ومهما كانت البراهين المؤكدة لتلك الحقائق ساطعة لا تحتاج النقاش.

يحضرني هذه الأيام مثل الجاحظ بإلحاح مع كل تصريح أو بيان يطالعنا به بعضهم، ليعرب لنا فيه عن "انشغال" استبد به وأقلق منامه الهنيء، لا لشيء سوى لأن الشأن التونسي لا يسير على النحو الذي يريده هو ويرضاه، والحال أنّه "الأدرى" بمصالح شعبنا و"الأقدر" على تحديدها وفهمها، تماما مثلما حددها وفهمها أجداده الذين نزلوا بأرضنا سنة 1881 وجثموا بها أكثر من 75 سنة، خبرنا خلالها "حرصهم الشديد" على صيانة مقدرات التونسيين وضمان حقوقهم وحرياتهم، مثلما تشهد بذلك الثروات التي نهبوها والمعتقلات التي أقاموها ودماء الشهداء الطاهرة الزكية التي سفكوها.

صحيح أن التونسي قد أقام منذ ما يزيد عن الخمسين عاما جمهوريته المستقلة ذات السيادة، وأنه قد تصالح خلال العقدين الفارطين مع هويته الوطنية في مختلف أوجهها وتجلياتها.. صحيح أن تونس قد بنت خلال هذه الفترة، رغم ندرة الموارد ومحدودية الثروات، اقتصادا استطاع أن يصمد أمام تقلبات عصفت بأعتى الاقتصادات، وأنّ بلادنا ماضية بكل عزم وثبات على نهج تكريس الديمقراطية وتأصيل مقوماتها... صحيح أيضا أن قيادتها قد وطدت أواصر التضامن والتكافل بين مختلف فئات مجتمعها، وأنها ضمنت لكافة أبنائها مقومات الكرامة ومهدت لهم سبل الرفاه... كل هذه الحقائق وأكثر تشهد بها المؤشرات المحققة على أرض الواقع وتؤكدها التصنيفات التي تنجزها أكبر الهيئات والهياكل الدولية المختصة... ولكن هل يكفي كل هذا، وسليل روسطان وقيون وديهوتكلوك يشعر وهو على بعد آلاف الأميال منّا "بالانشغال" لحالنا و"القلق" على مستقبلنا؟

أيكون من واجبنا حيال هذه "الإنسانية" الطافحة أن ننسج على منوال أعرابي الجاحظ في تلك النادرة، حين خلع العمامة والعباءة والقميص، وكان مستعدا لخلع ما بقي عليه من ملابس أملا في أن ينال رضاء صديقه الموهوم؟
أيكون علينا أن نخضع لرغبات "أصدقائنا"، ولم لا أن نمتثل لأوامرهم، عسى أن تهدأ هواجسهم ويستعيدوا سكينتهم التي عرفوا بها، والتي لم تحركها مآسي الطفولة المغتصبة في فلسطين، ولا استغاثات النساء والشيوخ قبل ذلك في سراييفو وصربرينيتشا، ولكن أزعجها تشبث بلادنا بسيادتها، وتعلقها بقيمها، وتمسكها بقوانينها.

هيهات أن تقف تونس الكرامة والحضارة والرقي مثل هذا الموقف أو أن تمنح المحتالين الأفّاقين مثل هذه الفرصة. فما بدأ أصحاب "البيانات القلقة" ولا شك يفهمونه، هو أنّ الجمهورية التونسية لا تساوم على سيادتها ولا تقايض كرامة أبنائها مقابل رضاء من لا تزال تراودهم أحلام يقظة عفا عليها الدهر...

إن ما بدأوا ولا شك يفهمونه أيضا، هو أن المشكلة لا ينبغي البحث عنها لدى دولة سائرة بثبات على درب التحديث، عاملة على تحقيق شروط ازدهارها ومناعتها، بل في أذهان مازالت تسكنها عقدة تفوق موهوم، وكان أحرى بها أن تسكنها عقد الذنب والخجل لما اقترفه أصحابها في حق الشعوب على مرّ العقود من جرائم وجنايات...

إنّ ما ينبغي عليهم بعد ذلك أن يفهموه، هو أن ما تحققه تونس يوما بعد يوم في مجال دعم حقوق الإنسان وضمان الحريات وتكريس التعددية وتعزيز المشاركة السياسية إنما هو من مشروع التغيير في الصميم، وهو خطوات إرادية ولبنات حقيقية نحمي بها تونس اليوم ونبني بها تونس الغد، وهو ليس بأية حال من الأحوال، كما قد تهيئه لهم نرجسيتهم المريضة، محاولة لتهدئة روعهم ومعالجة ما أصابتهم به "رهافة حسهم ورقة إنسانيتهم" حيالنا من "قلق وانشغال"، لأنه يكفيهم إن أرادوا علاجا لذلك أن يتذكروا، وهم الحريصون على مصداقية الصحافة والمنادون بقداسة حرية التعبير، أن تونس ليست هي من جنّدت صحافتها، وما بالعهد من قدم، لترويج الأكاذيب ومغالطة رأيها العام لتسويغ شن الحروب وتدمير الحضارات، وليست هي من واجهت أبناءها المنادين بالسلام واحترام الشعوب بالهراوات وخراطيم المياه... فتونس كانت وستبقى، كما أكد على ذلك رئيسها مرارا لمن يستطيع أن يفهم ويعي، أرضا للتلاقي والتسامح، تمد يديها لجميع أبنائها دون استثناء، وتفتح ذراعيها لكافة الأصدقاء، متى أدركوا معنى الصداقة ورعوا آدابها.

سليم قاسم

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire